يأتي عيد الربيع الصيني، المعروف أيضًا بعيد رأس السنة القمرية، كواحد من أعرق الأعياد التقليدية في العالم، حيث يحتفل الصينيون من 28 يناير إلى 4 فبراير 2025 بعيد لم شمل الأسرة، حيث تجتمع العائلات والأصدقاء وتُزين جميع الأراضي الصينية باللون الأحمر والفوانيس والاضاءات.
وفي إطار الجهود العالمية للحفاظ على التراث الثقافي أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في ديسمبر 2024 هذا العيد على قائمة التراث الثقافي غير المادي، باعتباره رمزًا للهوية الثقافية الصينية، وجسرًا للتواصل بين الشعوب، هذا الإدراج يُبرز أهمية الحفاظ على العادات والتقاليد التي تُعبر عن القيم الإنسانية المشتركة، مثل الألفة العائلية، والتواصل، واحترام الطبيعة ودورة الحياة.
وأحاول اليوم تسليط الضوء على أبعاد هذا العيد وأهميته العالمية، بالإضافة إلى تجربتي الشخصية المستمرة لقرابة ثلاثة عقود في التعايش مع الشعب الصيني وثقافته.
ما هي قصة الأبراج الصينية؟
تتكون الأبراج الصينية من اثني عشر برجًا تُحتسَب بالعام، ولهذا تسمى أعوام الأبراج الصينية. وترجع احتفالات عيد الربيع إلى عام 2600 ق. م. ويعتمد التقويم القمري الصيني السنوي على دورات القمر، وتستغرق الدورة الكاملة ستون عاماً وتتكون من خمس دورات مدة كل دورة اثنا عشر عاماً. ويطلق على كل عام من هذه الأعوام الاثنا عشر اسم حيوان. وتبدأ أول الأعوام بعام الفأر ثم يأتي بعدها في الترتيب أعوام الثور والنمر والأرنب والتنين والثعبان والحصان والخروف والقرد والديك والكلب والخنزير.
ويشير البعض إلى أن عيد الربيع مرتبط بقدوم الربيع، حيث أن الصين القديمة كانت مجتمعا زراعيا، وقد قام الصينيون عبر آلاف السنين باستخدام التقويم التقليدي بهدف إرشاد المزارعين إلى المواقيت المناسبة لزراعة المحاصيل وحصادها، وكان عيد الربيع محددا بأول يوم لموسم الربيع، ثم أصبح في بداية الشهر الأول من التقويم التقليدي.
عيد يحتفل به العالم
لا يقتصر الاحتفال بعيد الربيع على الصين وحدها، بل يمتد ليشمل مجتمعات صينية كبيرة في أنحاء العالم. ففي نيويورك مثلا يُضاء الحي الصيني بالفوانيس الحمراء وعروض التنين التي تجذب آلاف الزوار. وفي باريس تصبح شوارع المدينة مسرحًا لمواكب احتفالية تنبض بالحياة. حتى في سيدني، تضج الموانئ بالعروض النارية التي تضفي طابعًا مميزًا على الحدث، ويُختتم عيد الربيع بمهرجان الفوانيس، حيث تُضاء الفوانيس المزخرفة بأشكال وألوان متنوعة، في مشهد يعكس جمال الثقافة الصينية. كما يشارك الناس في حل الألغاز المكتوبة على الفوانيس، ما يضفي طابعًا احتفاليًا وتفاعليًا.
أما في مصر، فقد أصبحت احتفالات الجالية الصينية مناسبة سنوية تجمع بين الثقافتين المصرية والصينية. حيث تقام فعاليات متنوعة تتضمن العروض الفنية، والأسواق التقليدية، وتجارب الطهي الصيني التي تتيح للجميع فرصة تذوق أطباق شهيرة خاصة مع انتشار المطاعم الصينية في أماكن كثيرة من مصر ومنها "الجياوتسي" (القطايف الصينية) و"البط المشوي". والحقيقة أن هذه الفعاليات لا تُظهر فقط الترابط الثقافي بين الشعبين، بل تعكس أيضًا احترام مصر للتنوع الثقافي واستعدادها للاحتفاء بتقاليد شعوب أخرى.
تجربة شخصية عبر ثلاثة عقود
بالنسبة لي، كان عيد الربيع أكثر من مجرد مناسبة ثقافية. فخلال ثلاثين عامًا مضت، أتيحت لي الفرصة للاحتفال بهذا العيد مع أصدقائي الصينيين سواء في الصين أو خارجها. ولا تزال ذكريات حضور أول احتفال لي في بكين محفورة في ذهني، حيث تجتمع العائلات حول موائد الطعام المليئة بالأطباق التقليدية، ويتبادل الأصدقاء الأظرف المالية الحمراء (الخون باو – العيدية) التي تحمل البركات والوعود بمستقبل أفضل.
وخلال فترة دراستي بجامعة بكين في نهاية تسعينيات القرن الماضي، كان عيد الربيع مناسبة للاندماج مع أصدقائي الصينيين، حيث دعوني إلى منازلهم لمشاركة عشاء ليلة رأس السنة. وكان الجو مليئًا بالدفء والفرح، واكتشفت من خلال هذه التجارب القيم العائلية التي تتميز بها الثقافة الصينية. أكثر ما لفت انتباهي هو الدقة في تحضير الزلابية (جياؤتسي) والطريقة التي تُحكى بها القصص العائلية أثناء تحضير الطعام، ما يعكس الأهمية العاطفية والاجتماعية لهذا العيد.
أما خلال عملي في بكين، فكانت هذه المناسبة فرصة لتعزيز العلاقات الثقافية بين مصر والصين. حيث قمنا بتنظيم فعاليات احتفالية شارك فيها أبناء الجالية المصرية وزملاء صينيون، قدمنا خلالها أطباقًا مصرية وعرفنا الضيوف على الثقافة المصرية، مما أضاف بُعدًا جديدًا للتواصل الثقافي. كما شاركت أسرتي في هذه الاحتفالات، واستمتعنا بتجربة المظاهر الفريدة للعيد، مثل عروض الرقص الشعبي الصيني ومهرجان الفوانيس، ما أثرى فهمنا للثقافة الصينية.
رمزية العيد في تعزيز التعايش الثقافي
يمثل عيد الربيع نموذجًا حيًا لدعم "مبادرة الحضارة العالمية" التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في مارس 2023، والتي تهدف إلى تعزيز التبادل الثقافي والحوار بين الشعوب. إذ يعكس الاحتفال بهذا العيد في بلدان مختلفة حول العالم، بما في ذلك الدول العربية، قدرة الثقافة على تجاوز الحدود، وبناء أواصر التفاهم المتبادل. فعلى مدار العقود الماضية، أصبحت فعاليات عيد الربيع جسرًا للتواصل بين الصين والعالم، تُعبر من خلاله الصين عن استعدادها لتقاسم ثرواتها الثقافية كوسيلة لنشر السلام.
احتفال بالحضارة والتاريخ
يتميز عيد الربيع بارتباطه بموروث ثقافي يمتد لآلاف السنين. تبدأ الاحتفالات بتحضيرات مكثفة تشمل تنظيف المنازل للتخلص من الطاقة السلبية، وتزيينها بالفوانيس الحمراء التي ترمز للحظ السعيد. كما تُقام احتفالات جماعية تشمل عروض الألعاب النارية ورقصات التنين والأسد التي تهدف إلى طرد الأرواح الشريرة وجلب السعادة.
إلى جانب الطقوس التقليدية، يمثل العيد فرصة للتعبير عن مشاعر الامتنان والوفاء للعائلة. تلتقي الأجيال حول مائدة واحدة، ويتبادلون الأمنيات الطيبة والهدايا. هذه القيم العالمية التي يحتفي بها الصينيون في عيدهم تعزز من فهمنا المشترك لأهمية الأسرة والترابط الإنساني.
رسالة للعالم
إن احتفالات عيد الربيع، سواء في الصين أو خارجها، تعكس كيف يمكن للثقافة أن تكون جسرًا للتواصل بين الشعوب. ومن خلال مشاركتي في هذه الاحتفالات، شعرت بأن عيد الربيع ليس مجرد مناسبة صينية، بل هو عيد عالمي يخص كل من يؤمن بأهمية التعايش والاحتفاء بالتنوع الثقافي.
ختاماً، يُعد عيد الربيع الصيني مناسبة احتفالية تحمل أبعادًا حضارية وإنسانية عميقة. وإدراجه ضمن التراث الثقافي غير المادي ليس مجرد تكريم للثقافة الصينية، بل هو دعوة لجميع شعوب العالم للالتقاء حول قيم السلام والتعايش. ومع اقتراب الاحتفالات بعام 2025، يمكن أن يشكل هذا العيد فرصة لتجديد الالتزام بقيم التسامح والانسجام التي يحتاجها العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى، وأدعو كل من لم يشارك في احتفالات عيد الربيع من قبل أن يخوض هذه التجربة. إنها ليست فرصة للتعرف على ثقافة عريقة فحسب، بل هي أيضًا دعوة للتأمل في قيم التسامح والاحترام المتبادل التي يحتاجها عالمنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.
الكاتب: احمد سلام
*المستشار الإعلامي المصري السابق ببكين
والخبير بالشأن الصيني
عضو جمعية الصداقة المصرية الصينية
Sallamahmed2@gmail.com